قطعاً لستُ ضد الوقفات ولا التضامن ولا الاحتجاجات، لكنها لا تكفيني.
لست ضد أن نصرخ ولا أن تكتب ولا أن ينظم الشعراء قصائد الصمود والأحزان، لكنه لا يكفيني.
لا يكافيء الدم، سوى الدم.
لا يرد الحرب سوى الحرب، ولا الانتقام سوى الانتقام، ولا التشريد سوى التشريد.
لا شيء تستحقه إسرائيل، جراء ما تفعله سوى أن تُباد، سوى أن تصبح خبراً من الماضي.
لكن كيف ونحن كما نحن .. كيف وهذا حالنا لا يخفى علينا وليس على أحد غيرنا .. كيف ونحن لا نملك سوى «اليُفط» واللافتات والأغنيات، وذكريات نستعيدها من زمن فات.
كل ما لدينا من الشموخ ماضٍ ليس إلا، أيام عزنا في الأندلس وقصة «وا معتمصاه» الذي نادته امرأة فتأهبت لها الجيوش .. كيف الحال الآن وآلاف النساء تستغيث وآلاف الأطفال تستجير، كيف الحال والموت يحصد أهلنا في غزة «سنابل قمح» لكن أهل غزة ينبتون من جديد.
كل ما لدينا قصص .. خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو وصلاح الدين وغيرهم من الأساطير الذين أصبحت أشك فعلاً أننا من نسلهم .. غير معقول أننا أحفاد هؤلاء .. غير معقول أننا أبناء هؤلاء .. نحن «مسخ آخر» وجنس آخر .. نحن «نكت» وأكاذيب وهراء.
هل تشاهدون ما نشاهد .. تلك الأم التي تربت على صدر صغيرتها وهي مُسجاة بين الحياة والموت على الأرض في المستشفى الذي أُبيد، وذلك الأب الذي عاد يسأل الطبيب عن ولده وكيف حال «الأمل الضعيف»، فلم يجد ابنه ولا الطبيب ولا المستشفى .. هل شاهدتم ذلك الصغير يلقن الصغيرَ الشهادة .. هل تواريتم عندها؟ هل ارتبتم في أنفسكم وسألتم عن شهادات ميلادكم لتتأكدوا إن كنتم ذكوراً حقاً، كما فعلت .. هل رأيتم كيف كان ذلك الصبي جبلاً بينما نحن ذرات من غبار.
أمس، وأنا أطارد هذا الكابوس الذي أحلَّ بنا، أتنقل بين عناوين الأخبار، أحمد الله كلما مر نبأ دون سقوط شهيد .. أحمد الله أنهم عشرة وليسوا مائة وأنهم مائة وليسوا ألفاً .. أحمد الله أنه مجرد بيت تهدم أو أن الأسرة بقي منها أحدها .. وأنا أجلد نفسي بذلك، فاجأتني تلك التظاهرة الأدبية على هامش أحد المهرجانات العربية، يختال رموزها بما فعلته «مدونة السرد العربي» التي حملت القضية منذ النكبة حتى الآن، وكيف أن الرواية العربية «أنجزت نصاً سردياً يمتلك المقومات الفنية ويظهر آثار الاحتلال على الإنسان والمكان»– أي والله مكتوب هكذا بالنص– ولقاءآت مع هذا وذاك، المباهون بالرؤى العبقرية التي أبقت فلسطين قضية العرب المحورية، والجرح العربي النازف، والتغريبة، وهذا الكلام الكبير الذي يخص الأدباء، والذي نمارسه نحن أيضاً بطريقة أخرى.
كلنا هؤلاء الأدباء ولكن بطريقتنا .. بالهتاف .. بأغنيات الحلم العربي الذي لن يفسره أحد لأنه لا أحد يريد له تفسيراً، وبالرقص الإيقاعي إن أمكن، والسيمفونيات، والقصائد الجزلة، ولوحات الفن المعاصر السريالية التي سترسم «بالتكعيب» تفاصيل القضية.
أيها الناس .. لا شيء يستحق إلا هناك .. الكتب هناك، واليقين هناك والشجاعة هناك والرجال هناك والنساء هناك.
الجمال هناك والنخوة هناك والأمل هناك.
أبهى ما فينا هناك .. في غزة، بقيتنا الباقية التي خذلناها.
لست رجل سياسة ولا حرب، لكنهم أيضاً من أقنعونا أننا أمة واحدة .. هم من أنشأوا لنا جامعة الدول العربية .. هم من قالوا إن الدم العربي واحد .. هم ونحن من نرى أمريكا ترسل قواتها وفرنسا وغيرهما، بينما نحن أصحاب الدار صامتون كالأحجار.
.. وماذا بعد:
أنا مثلكم وأنكى .. لكن لدي قناعة .. أن أجلس في بيتي كئيباً ذليلاً « خايب الرجا » .. أبكي وأنوح أفضل عندي من الهتاف .. أن ألطم خدي كالنساء، رغم أني أبداً لن أطاول نساء غزة.
اللهم انصر عبادك في غزة
اللهم إن لم نكن معهم، فكن معهم
اللهم سخر لهم ملائكة السماء، فقد خذلهم أهل الأرض
اللهم ارزق أهل فلسطين الثبات والنصر والتمكين
اللهم لا ترفع لأعدائهم راية، واجعلهم للمتجبرين آية